غربة الشيح لعمرو العامري: دأب البحث وصولا إلى اكتمال الأنموذج السردي*
غربة الشيح هي آخر الروايات الصادرة للروائي عمرو العامري “صدرت عن دار كنوز المعرفة، جدة 2021م”تمثل الرواية خلاصة من تراكم الخبرات السردية التي اكتسبها العامري عبر أكثر من عمل روائي سابق، منها: “بيت أمي” و”جنوب جدة شرق الموسّم”. وعبر أعمال أخرى للمؤلف موزعة أجناسيا ما بين الكتابة السيرية والقصة القصيرة، وغيرها.
منذ استهلال الرواية بعنوانها “غربة الشيح” يبدو تميز العمل، حيث تحييده – بداية من العنوان: “غربة الشيح” عن كل اسقاط من شأنه أن يوحي بأي تمازج فيه لأشكال من الكتابات الأجناسية الأخرى القصصية والسيرية، التي قد تظل محتملة بداية من العناوين، كما في العملين السابقين سواء في “بيت أمي” أو “جنوب جدة شرق الموسم”. فالأول قد يظل مفتوحا على تداخله مع السيرة الفردية، والثاني مع السيرة الجماعية. غير أن “عنوان “غربة الشيح” تجلى فيه تحييده عن المحددات الفردية “الذاتية” فلم يشتمل العنوان على أي ضمير لمتكلم، أو مخاطب، من شأنه أن يوحي بدايةً بتداخل عوالم العمل ومساحات التخييل من حيث منظور “المؤلف/البطل/ الراوي”. وكذلك يميز عنوان “غربة الشيح” عدم اقترانه بمدن بعينها كجدة أو الموسّم اللتين قد تكونان متقاطعتين مع سيرة وحياة المؤلف.
ويضاف إلى ذلك ثراء العنوان في حمولته الدلالية. فالغربة مدلول يتسم بشموليته “الزمكانية”؛ مما ينعكس على انفتاح آفاق التخييل، وخصوبة تكوين تفاصيل كثيرة تحته، تساهم في تنويع عوالم البنية الحكائية. بينما تأتي دلالة الجزء الثاني من العنوان “الشيح” بصفة أنه ليس نباتا خاصا بجهة جغرافية محددة بعينها. “كالنباتات العطرية المعروفة في المناطق الجبلية من جنوب الطائف إلى جبال اليمن”. كما أن نبات الشيح ليس له بعد رمزي مكتسب من مجتمع بعينه، مثلما نجده في نبات “الفل” المعروف في كل مكان لكنه على سبيل المثال له حضوره الخاص وارتباطاته الطقوسية بمجتمعات جنوب الجزيرة العربية، ولا سيما التهامية منها. من هنا ف”غربة الشيح” كان عتبة النجاح الأولى للعمل في انفتاحه وتحرره من الارتباطات المكانية والذاتية.
وثمة عوامل أخرى لعبت دورا مهما في تميز العمل وجودته وتماسكه في مستويات تشويقية متصاعدة على رأسها اختيار الحدث الرئيس والشخصية الرئيسية.
فبطل العمل “طالع” لا يتجلى للقارئ بصفته “البنائية” المتموقعة بين علامتي تنصيص، تبدأ من غربة الولادة ويتْم النشأة وصولا إلى غربة العودة”. فهذه الصفة لا يخلص إليها القارئ مبكرا في ثنايا العمل، لأن تشكّلها على ذلك النحو لا يكتمل، إلا بالانتهاء من آخر الصفحات. وهو مما يحسب للمؤلف من حيث نجاحه في المحافظة على جذب انتباه القارئ حتى الأسطر الأخيرة.
وبين هاتين العلامتين التنصيصيتين تمتد وتتنوع أحداث وتفاصيل الرواية. التي تتمركز جوهريا في “نزعة الأنسنة”؛ إذ هي الهاجس المسيطر على ملامح شخصية بطل العمل “طالع” في حواراته ومواقفه. حيث نبذ القيود العرفية المجتمعية الضيقة مقابل الانفتاح على الروح الإنسانية بمفهومها الأوسع. فهي السلّم الذي ظل العمل يتصاعد في مدارجه.
لذلك جاء اختيار الحدث الرئيس “السفر المفتوح عبر “سنبوك” “مركب بحري” تتقاذفه الرياح. وتتلاعب به الأقدار.
لتبدأ ذروة حبكة العمل في التصاعد عندما تتوقف الرحلة بالمركب معطوبا في مدينة سواحلية إفريقية “بربرة” لم تكن هي الوجهة المقصودة. فيكون هذا التوقف بابا لدخول شخصيات جديدة ونشوء مواقف وحوارات معها وأحداث تغذي هاجس الانفتاح على الأبعاد الإنسانية.
ثم تأتي مرحلة التخلي عن المركب، والتوجه على متن مركب آخر إلى مدينة عدن. وهي المدينة الانفتاحية الثرية بالمكونات الأعراقية المتنوعة والمتعايشة، لتنشأ سلسلة من الأحداث والتفاصيل في حياة البطل والشخصيات المحيطة به، في حقبة يفهم منها تزامنها مع تحول مدينة عدن عن مظاهر سيطرة الاستعمار البريطاني ومقاومته وبداية دخولها في التشكلات الحزبية السياسية وظهور المد الاشتراكي وما صاحب ذلك من تحولات اجتماعية واقتصادية وسياسية أثرت على البعد التجاري للمدينة، وهو البعد المتعلق بمجال عمل بطل العمل “طالع” التجارة الحرة.
هذا الاختيار للحدث “التنقل المستمر” والتوق إلى الأمكنة الأثرى بتنوع أعراق أناسينها من قرية صغيرة بالجبال إلى مدينة صغرى “صبياء” وخاصة التنوع الذي تشهده في سوقها الأسبوعي الكبير العريق. إلى مدينة أكبر “جازان” التي تعد بمينائها بوابة انفتاح على العالم المجاور، مرورا ب “بربرة” ف “عدن” ف “جدة” هذا التوق للأمكنة الأثرى بتنوعاتها وأعراقها حرر البطل “حقيقة” و”رمزا” من الارتهان لأي مكان بما في ذلك مكان الولادة والنشأة بكل ما لهذه الأمكنة من عادات وتقاليد وموروثات يجتازها البطل عابرا حتى عادة “الختان” بثقلها وطقوسها. هذه العادة وغيرها كثير، من موروثات التراث غير المادي، مما لم يوله المؤلف كبير اهتمام أو توقف عنده. مقابل تنامي نزعة التحرر من الأعراف القبلية والمجتمعية التي ظل المؤلف يغرسها في ملامح شخصية بطل العمل، منذ تمرد الأم في خيارها بالزواج خارج القبيلة، واختيار هواية البطل العزف على “الناي/المزميرة” التي سيتمرد البطل على تحريم فقيه الكتاتيب لممارسته لها بالقرية! ستكون هذه الهواية لغة تواصل بينه وبين ركاب المركب ثم سكان المدينة الساحلية “بربرة” الذين لا يشاطرونه اللغة، وتجعل الأفق الإنساني المفتوح هو ما يحرض البطل على ارتياد المغامرة من مكان إلى مكان.
حتى العواطف وإن اشتغلت في داخله حينا فإنه سرعان ما يتجاوزها بصفتها عراقيل تحاول ربطه بمكان ما. فالبطل لم يرضخ لعلاقته بالفتاة التي شاطرته المرعى في القرية، ولم يستسلم للهيب عواطف الأمومة وحنينها لرجوعه إلى أحضانها المفجوعة باغترابه المبكر وسفره، كما حاول أيضا التحرر من الارتباط بأول فتاة حدث بينه وبينها استلطاف في مدينة غريبة.
وحينما ستعيده الأقدار للارتباط بها، فإنه، إنما يرتبط بها لأن في هذا الارتباط كسراً للمحاذير المجتمعية الضيقة، وعملا بتوقه لكل ما هو إنساني.
ولهذا التوق والالتزام بكل ما هو إنساني سيظل غريبا “بإنسانه المنفتح” حينما تلجؤه الظروف للعودة إلى مكانه الأول، لاستخراج أوراقه الثبوتية، فحتى مع عودته بصحبة أطفاله وزوجته إلى أحضان أمه. فإنه يعود غريبا، بل ومنبوذا من مجتمعه الضيق المحدود، جراء اقترافه لمغامرة رحلة البحث عن “تحرر” إنسانه “المطلق” من مفاهيم وأعراف وقيود”مجتمعه الضيق المحدود” واعتناقه لمبادئه الإنسانية المتصالحة مع كل زمان ومكان ينبغي أن لا يسود فيه سوى تعايش الإنسان مع الإنسان.
من هنا فغربة الشيح/رواية تحكي غربة الإنسان ورحلته في البحث عن تحرره وحريته!! لكن دون أن تبوح بهذا البعد النبيل السامي في أسلوب مباشر، ودون أن تعتمد على المبالغات في جوانب منها على عوالم غرائبية تعوّل فحسب على الموروث الحكائي وأسطرته!!
وإنما جاء الاشتغال على هذه الغاية في لوحة جمالية أخاذة بقالب سردي متساوق البناء، على نحو لا يعوزه التخييل، ولا يشوّه الأحداث المستلهمة فيه من الواقع تكشّف جانب الافتعال والإقحام والانتهاء إلى إحالتها لفانتازيات فجة، قد تصرف القارئ عن العمل بمجرد اكتشافه لها. أو اكتشافه عدم تمكن المؤلف في عدد من المواضع من تحييد سطوته على شخصياته أبطال عمله، وانفلات الرواية وتحول أسلوبها في بعض المقاطع والصفحات إلى ما يقترب من التداعيات لأبعاد سيرية ذاتية أو جماعية، أو استعراض لمخزونات قرائية، أو تمطيط لأحداث وتفاصيل يومية حدّ الإملال والإثقال على القارئ. فكل هذه الملاحظات خلا منها العمل. وبدا بوضوح وعي المؤلف بمزالقها.
مما يمكن من الخلوص إلى أن أسلوب الكتابة والقبض على تقنياتها السردية في “غربة الشيح” يعد الأقرب إلى تكامل العناصر الفنية والنضج الفني لقالب الرواية في منجز عمرو العامري السردي.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
محمد حبيبي
نشرت القراءة في ملحق أصوات مجلة اليمامة الخميس 4 يناير 2024